أمي .. سعاد زهير
مجلة الهلال - ٥ ديسمبر٢٠٠٨
علمتني أن أكون حرا مستقلا في رأيي , وأن أعبر عنه بشجاعة واستقامة وأكون صادقا مع نفسي
كم هو صعب علي المرء أن يكتب عن أمه كشخصية عامة !
لا شك عندي أن إلقاء الضوء علي الدور الذي لعبته سعاد زهير في قضايا المرأة والحرية والتحرر من الاستعمار والاشتراكية. ليس عملي بقدر ما هو عمل الباحثين , لأنهم سيكونون في وضع أكثر حيادية بالتأكيد. بينما كل ما يمكن أن اكتبه هو معلومات وبعض ذكريات عن علاقتي بها قد يكمل جانبا هاما في شخصيتها وحياتها.
كانت سعاد زهير هي الابنة الثانية لأبيها صالح زهير الذي كان ناظرا لمدرسة في دسوق و في نفس الوقت يصدر صحيفة محلية بها. شعرت منذ طفولتها بخيبة أمل أسرتها التي تمنت ولدا بعد البنت الأولي, وانعكس هذا في إهمال الأسرة لها وعندما جاء بعدها ولدان فرحت الأسرة و لم يعد أحدا يهتم بها .حقا كان الأب يحنو عليها من باب الشفقة, لكن إحساسها بالاضطهاد جعلها تنطوي علي نفسها وجرها الانطواء أن تصادق الكتب الموجودة بمكتبة أبيها وزادت هذه الصداقة عندما توفي الأب مبكرا. ومن هنا ولدت شخصيتها المتحدية العنيدة ورفضها لاضطهاد المرأة وتمييز الرجل وصولا إلي رفض اضطهاد المستعمر لوطنها وكان هذا طبيعيا كابنة لرجل وفدي يعشق سعد زغلول.
وشبت فتعرفت علي فتحي الرملي الذي كان صديقا لزوج أختها الكبرى والذي اختبأ في منزل أسرة صديقه لفترة هربا من البوليس السياسي فنشأت بينهما قصة حب تشبه قصة ( في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس ولعلها كانت ماثلة في خياله وهو يكتبها لمعرفته بالاثنين فيما بعد . قبض علي فتحي الرملي فكانت هي الشخص الوحيد الذي يزوره في سجن الأجانب, ولما حضرت للقاهرة كان أول موعد حددته هي للقاء معه أمام تمثال نهضة مصر! بعدها كان الزواج الذي سبق استئذان الأسرة ! واحتفلا به في بيت الفنانين في درب اللبانة وكان من بين حضوره إحسان عبد القدوس والمخرج السينمائي كامل التليمساني والقصاص الفنان البير قصيري. وبالزواج أصبح أسمها سعاد الرملي كعادة هذا الزمان.
لقد وجدت في شخصية زوجها نفس صفات التحدي والعناد ورفض الاضطهاد الذي يكون شخصيتها . كان يناضل من أجل طرد المستعمر و يجاهر بالدعوة للاشتراكية في وقت كانت بمثابة تهمة خطيرة , وهكذا تعرفت علي الاشتراكية من خلاله فوجدت فيها رفضا لإهمال واضطهاد الطبقات الكادحة, وبدأت تشاركه نضاله السياسي والاجتماعي, وتكتب بالصحف التي يصدرها وتصادرها السلطة فيواصل إصدارها بأسماء مختلفة, وتشاركه توزيع المنشورات السرية!
رشح فتحي الرملي نفسه عام ١٩٤٤ في الانتخابات عن دائرة السيدة زينب فكان أول من كتب علي الحوائط في دعايته الانتخابية ( مرشح الجبهة الاشتراكية. لا يسنده لقب أو مال أو حكومة) ووضع صورته في بذلة العمال الزرقاء, وقد حكي لي الراحل لويس عوض والأستاذ أسامة ألباز أنهما سارا خلفه هو وزوجته في مظاهرة بعد ان أقتحم البوليس سرادقه الانتخابي وأخذه إلي قسم السيدة فوقفت هي علي سلالم القسم تخطب في الناس ضد طغيان السلطة وطغيان المحتل. وفي هذه الجو لم يفكر الزوجان في الإنجاب لفقرهما من ناحية ولانهماكهما في العمل السياسي ولكن ابنهما البكر جاء إلي الدنيا بعد عام من الزواج كخطأ غير مقصود .
وفي نفس عام ١٩٤٥ وجهت الدعوة لمصر لحضور أول مؤتمر نسائي دولي في باريس فساعدها زوجها بأن جمع لها توكيلات لتمثل المرأة العاملة ضمن ثلاث سيدات تكون منهن الوفد المصري هي والفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون والسيدة صفية فاضل. تركت سعاد الرملي ابنها لا يزال رضيعا وسافرت ,وعادت لتنشر كتابا صغيرا عن المؤتمر وتنضم لسيزا نبراوي وحركة الإتحاد النسائي المصري من أجل حقوق المرأة السياسية والاجتماعية ودورها في التحرر الوطني بجانب الرجل,وعملت كمديرة تحرير لمجلة " بنت النيل " التي كانت تصدرها درية شفيق. أحدي الشخصيات التي لعبت دورا في الحركة النسائية. وساعدتها أمي في كتابة كتاب ضخم بعنوان ( كفاح المراة المصرية) فلم تكن درية شفيق تجيد الكتابة بالعربية.
تكرر اعتقال أبي بتهم الترويج للاشتراكية والعيب في الذات الملكية ورغم ذلك ورغم صغر سن أولادها راحت توزع المنشورات الملتهبة, وتتذوق الاعتقال بدورها , وتحقق معها الصحافة بشـأن سفرها لباريس وكيف اختارت زوجها وكيف تعيش معه ولماذا تسمي ابنها لينين, ويأتي الصحفيون الأجانب إلي مصر ويرغبون في لقاء شخصيات اشتراكية فيرسلهم الأستاذ إحسان عبد القدوس إلي فتحي وزوجته الذي يكتب الكاتب الكبير سلامة موسي عنهما كنموذج للعائلة المصرية التي تفخر بها البلاد..
وفي ٢٣ مايو ٤٨ قبض عليها هي وزوجها في الطريق متلبسين بحيازة منشورات تدعو لمقاومة الاحتلال الإنجليزي وأودع كل منهما في سجن فكان من نصيبها سجن الأجانب لكنها أصرت ان تأخذ معها ولديها لينين ذو الثلاث سنوات وجهاد في شهره الرابع ليعتقلا معها كي ترعاهما!
حكت لي يوما كيف ذهبت لمكتب النقراشي باشا رئيس الوزراء تطالبه بالإفراج عن زوجها المعتقل فراح يسألها ماذا يريد الاشتراكيون ؟ وبدأت مناقشة معه سرعان ما علا صوتها وعلا صوته, ودخل مدير مكتبة مرات قلقا , ويذكره بفوات موعد طائرته إلي أسوان ! وقفت سعاد الرملي إلي جوار زوجها وهو يعلن الإضراب عن الطعام مع بعض رفاقه لإلغاء معاهدة ٣٦ في أغسطس ٥١ وهو الإضراب الذي استمر أسبوعين ونجح بعد شهر في إلغاء المعاهدة بالفعل.
لكن الرفيقان وقد اجتمعا علي قضية الوطن والحرية والاشتراكية فرقت بينهما قضية المرأة ! أبلغتها المباحث بأن في حياة زوجها إمراة أخري ! وعبثا حاول الرفيق أن يصالح زوجته العنيدة حاملة لواء حقوق المرأة , وهكذا وقع الطلاق عام ١٩٥٥ فعادت تعرف باسم سعاد زهير وانضمت للعمل بمجلة روز اليوسف كأول صحفيه بها, وتخصصت في تحقيقات قضايا العمال والمرأة .
كان أبي علي خلاف دائم بالشيوعيين المصريين وفشلت محاولات ضمه لحزب حدتو فقد كان يري أن رئيسه هنري كورييل صهيوني بينما كان رأي الحزب في أبي أنه فردي وفوضوي معا ! وبعد أن خرج من سجنه عام ٥٤ أجبرته السلطة علي عدم الاشتغال بالسياسة أو الصحافة وذلك حتى تمنعه معركته لإبعاد شبح الجوع عن أولاده عن أي عمل أخر. بينما انضمت سعاد زهير بعد الطلاق إلي تنظيم حدتو السري, وكنت أحيانا أري منشورات التنظيم مخبئة في حقيبة يدها. وقبيل القبض علي الشيوعيين في ديسمبر ٥٩ صارحتني أنها في تنظيم شيوعي وقالت أنها تتوقع القبض عليها حتى تمهدني لهذا الحدث عندما يقع وطلبت منى أن ابلغ أبي بأن يأخذ حذره.وبعد أن أعدت حقيبتها توطئة للسجن فوجئت بعدم القبض عليها وهو ما وضح سببه فيما بعد , فقد كان حدتو في مفاوضات للاتحاد مع حزب شيوعي أخر أظن أنه الحزب المصري ولكن المفاوضات انتهت إلي خلاف حاد, فوسطها حزبها كي تتكلم مع مسئولي الحزب الأخر وصدمت بأن كل حزب يتحدث عن الآخر بقسوة استنكرتها وأصابتها باكتئاب جعلها تعتكف ببيتها , فلم تعرف أن مسئولا في حزيها صعد زوجته إلي مسئولة منطقة بدلا منها ومن هنا لم يشملها أمر الاعتقال!
شجعها إحسان عبد القدوس علي نشر رواية مسلسلة في روزا اليوسف عام ٥٩ هي ( اعترافات امرأة مسترجلة ) وصدرت في الكتاب الذهبي عام ٦٠ نفس العام الذي صدرت فيه رواية الدكتورة لطيفة الزيات (الباب المفتوح) والدكتور لطيفة هي التي كتبت مقدمة الطبعة الثانية من اعترافات امرأة والذي تحول لفيلم سينمائي قامت ببطولته نادية لطفي أواخر الستينات, ولمسلسل تليفزيوني من ٧ حلقات في أول السبعينيات وكتب له ابنها السيناريو والحوار!
وأتوقف لأحكي بعض ذكرياتي معها . فغير كل جهودها من أجل قضايا الوطن والحرية والمرأة والاشتراكية فهي من وجهة نظري نموذجا للأم وليست مجرد أم لي .
كنت في السادسة عندما بدأت توعيتي بما يدور حولنا من أحداث ,وتقرأ لي مجلات الأطفال ثم بدأت تشرح لي ما ينشر في الصحف رغم صعوبة أن استوعبه في هذه السن.أذكر أنها في صباح اليوم الثاني لحريق القاهرة في يناير ٥٢ طالعت مانشت الصحيفة وخبطت علي صدرها بفزع قائلة أنهم أعلنوا الأحكام العرفية. كنت قد تعلمت أن اسأل, فرحبت أن تشرح لي كالعادة معني الأحكام العرفية !. وسألتها يوما هل الملك هو أقوى رجل في مصر ؟ ردت بالنفي فسألتها بدهشة لماذا هو إذن ملك ؟ ردت : لأنه أغنى شخص في مصر فهو يملك كل شيء فيها .
ويوما كانت مشغولة بتغليف أعداد مجلة يحررها أبي لإرسالها بالبريد ولاحظت اهتمامي بما تفعل فاقترحت ان أتركها تعمل و اعمل أنا مجلة بدوري .سألتها ماذا اسميها ؟ فاقترحت فورا اسم (المواطن الصغير). عملت المجلة من كراسه المدرسة ورسمت على غلافها كاريكاتير لقدم كبيرة تركل جون بول رمز الإنجليز , وظللت لعدة سنوات أصنع أعدادا من هذه المجلة, وشجعتني علي مواصلة الكتابة ,ونشرت لي أول قصة كتبتها في عام ٥٦ في مجلة صباح الخير .كانت تقرأ قصصي وتناقشني فيها وتدفعني لأتقدم بها لمسابقة نادي القصة وتحفزني علي قراءة الكتب من كل نوع روايات ومسرحيات وشعر وفكر وفلسفة وفن , وتأخذني لمسرحيات المسرح القومي. ولندوة نجيب محفوظ بكازينو أوبرا, وكان لها الفضل أن أتولي الإشراف علي صفحة الأدب بصحيفة العمال أواخر الستينات وأنا لا أزال أدرس بمعهد الفنون المسرحية فتعرفت من خلالها علي كثيرين من العاملين بالصحافة والفن والأدب والسياسة , وكان لها الفضل في ظهور أول أعمالي للتليفزيون وأنا في أول شبابي.
تركت أبي وانتقلت للإقامة معها من عام ٦٥ وكان عبد الناصر قد أعلن الاشتراكية بينما الاشتراكيون واليساريون في السجون, فأدخلوها المعهد الاشتراكي لتتعلم الاشتراكية التي استمرت تدعو لها لسنوات ! وواصلت الكتابة عن قضايا المرأة والعمال لكن بلا مظاهرات أو منشورات فحزبها الذي حل نفسه كان أصلا يري في عبد الناصر زعيما وطنيا له ميول اشتراكية .
كان تفكيري قد بدأ يتغير فكنت أحاورها معارضا ونظل نتناقش حتى الفجر. كان ذلك قبل هزيمة يونيه ٦٧ واستمر بعدها وحتى النهاية .لقد غرست في مبادئ الاشتراكية منذ صغري , لكنها علمتني أيضا أن أكون حرا مستقلا في رأيي , وأن أعبر عنه بشجاعة واستقامة ,وأكون صادقا مع نفسي ,وعلمتني منهج التفكير العلمي, والتفكير الجدلي , وهو ما حررني من الأفكار الثابتة والمطلقة فأختلف معها في كثير من الرؤى. بينما ظلت هي في خندق اليسار حتى أخر لحظة في حياتها.
في ١٣ يناير ٢٠٠٠ وبينما كانت السيدة سعاد زهير رئيسة جمعية الكاتبات المصريات تعبر كورنيش الإسكندرية التي كانت تعشقه بأعوامها الثلاثة والسبعون بنشاط شابة , دهمتها سيارة طائشة فأودت بحياتها في الحال , وهرب سائقها.
عدت لأجد بين أوراقي صورة لها عليها تاريخ ٨ مايو ٦١ قبل أن أبلغ السادسة عشر كتبت عليها بخط يدي ( أنا مدين لكي بكل شيء), وفتحت الطبعة الثانية من كتابها وقرأت الإهداء الذي كتبته لي. ( إلي من صالحتني به الأيام بعد طول قسوة).